فصل: القسم الأول من الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانية والخبر عن ملوكهم الأكاسرة إلى حين الفتح الإسلامي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.(الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانية):

.القسم الأول من الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانية والخبر عن ملوكهم الأكاسرة إلى حين الفتح الإسلامي:

هذه الدولة كانت من أعظم الدول في الخليقة وأشدها قوة وهي إحدى الدولتين اللتين صبحهما الإسلام في العلم وهما دولة فارس والروم وكان مبدأ أمرها من توثب أردشير ابن بابك شاه ملك مرو وهو ساسان الأصغر ابن بابك بن سامان بن بابك بن هرمز بن ساسان الأكبر بن كي بهمن وقد تقدم ذكر كي بهمن وأن ابنه ساسان غضب لما توج للملك أخوه دارا وهو في بطن أمه ولحق بجبال إصطخر فأقام هنالك وتناسل ولده بها إلى أن كان ساسان الأصغر منهم فكان قيما على بيت النار لاصطخر وكان شجاعا وكانت امرأته من بيت ملك فولدت له ابنه بابك وولد لبابك أردشير وضبطه الدارقطني: بالراء المهملة وكان على اصطخر يومئذ ملك من ملوك الطوائف وله عامل على دار ابجرد خصي اسمه سري فلما أتت لأردشير سبع سنين جاء به جده ساسان إلى ملك إصطخر وسأله أن يضمه إلى عامل دار ابجرد الخصي يكفله إلى أن تتم تربيته ولما هلك عامل دار ابجرد أقام بأمره فيها أردشير هذا وملكها كان له علم من المنجمين بأن الملك سيصير إليه فوثب على كثير من ملوك الطوائف بأرض فارس فاستولى عليهم وكتب إلى أبيه بذلك ثم وثب على عامل اصطخر فغلبه على ما بيده وملك إصطخر وكثيرا من أعمال فارس.
وكان زعيم الطوائف يومئذ أردوان ملك الأشكانيين فكتب إليه يسأله أن يتوجه فعنفه وكتب إليه بالشخوص فامتنع وخرج بالعساكر من اصطخر وقدم موبذان رورين فتوجه ثم فتح كرمان وبها ملك من ملوك الطوائف وولى عليها ابنه وكتب إليه أردوان يتهدده وأمر ملك الأهواز من الطوائف أن يسير إليه فرجع مغلوبا ثم سار أردشير إلى أصبهان فقتل ملكها واستولى عليها ثم إلى الأهواز فقتل ملكها كذلك ثم زحف إليه أردوان عميد الطوائف فهزمه أردشير وقتله وملك همذان والجبل وأذربيجان وأرمينية والموصل ثم السودان وبنى مدينة على شاطئ دجلة شرقي المدائن ثم رجع إلى إصطخر ففتح سجستان ثم جرجان ثم مرو وبلخ وخوارزم إلى تخوم خراسان وبعث بكثير من الرؤوس إلى بيت النيران ثم رجع إلى فارس ونزل صول وأطاعه ملك كوشان ومكران ثم ملك البحرين بعد أن حاصرها مدة وألقى ملكها بنفسه في البحر ثم رجع فنزل المدائن وتوجه ابنه سابور ولم يزل مظفرا وقهر الملوك حوله وأثخن في الأرض ومدن المدن واستكثر العمارة وهلك لأربع عشرة سنة من ملكه بإصطخر بعد مقتل أردوان.
وقال هشام بن الكلبي: قام أردشير في أهل فارس يريد الملك الذي كان لآبائه قبل الطوائف وأن يجمعه لملك واحد وكان أردوان ملكا على الأردوانيين وهم أنباط السواد وكان بابا ملكا على الأرمانيين وهم أنباط الشام وبينهما حرب وفتنة فاجتمعا على قتال أردشير فحارباه مناوبة ثم بعث أردشير إلى بابا في الصلح على أن يدعه في الملك ويخلي باب بينه وبين أردوان فلم يلبث أن قتل أردوان واستولى على السواد فأعطاه بابا الطاعة بالشام ودانت له سائر الملوك وقهرهم ثم رجع إلى أمر العرب وكانت بيوتهم على ريف العراق ينزلون الحيرة وكانوا ثلاث فرق: الأولى تنوخ ومنهم قضاعة الذين كنا قدمنا أنهم كانوا اقتتلوا مع ملك من التبابعة وأتى بهم وكانوا يسكنون بيوت الشعر والوبر ويضعونها غربي الفرات بين الأنبار والحيرة وما فوقها فأنفوا من الإقامة في مملكة أردشير وخرجوا إلى البرية والثانية العباد الذين كانوا يسكنون الحيرة وأوطنوها والثالثة الأحلاف الذين نزلوا بهم من غير نسبهم ولم يكونوا من تنوخ الناكثين عن طاعة الفرس ولا من العباد الذين دانوا بهم فملك هؤلاء الأحلاف الحيرة والأنبار وكان منهم عمرو بن عدي وقومه فعمروا الحيرة والأنبار ونزلوا وخربوها وكانتا من بناء العرب أيام بختنصر ثم عمرها بنو عمرو بن عدي لما أصاروها نزلا لملكهم إلى أن صبحهم الإسلام واختط العرب الإسلاميون مدينة الكوفة فدثرت الحيرة.
وكان أردشير لما ملك أسرف في قتل الأشكانية حتى أفناهم لوصية جده ووجد بقصر أردوان جارية استملحها ودفعت عن نفسها القتل بإنكار نسبها فيهم فقالت أنا مولاة وبكر فواقعها وحملت وظنت الأمن على نفسها فأخبرته بنسبها فتنكر ودفعها إلى بعض مرازبته ليقتلها فاستبقاها ذلك المرزبان إلى أن شكى إليه أردشير قلة الولد والخوف على ملكه من الإنقطاع وندم على ما سلف منه من قتل الجارية وإتلاف الحمل فأخبره بحياتها وأنها ولدت ولدا ذكرا وأنه سماه سابور وأنه قد كملت خصاله وآدابه فاستحضره أردشير واختبره فرضيه وعقد له التاج.
ثم هلك أردشير فملك سابور من بعده فأفاض العطاء في أهل الدولة وتخير العمال ثم شخص إلى خراسان فمهد أمورها ثم رجع فشخص إلى نصيبين فملكها عنوة فقتل وسبى افتتح من الشام مدنا وحاصر أنطاكية وبها من الملوك أريانوس فاقتحمها عليه وأسره وحمله إلى جنديسابور فحبسه بها إلى أن فاداه على أموال عظيمة ويقال على بناء شاذروان تستر ويقال جدع أنفه وأطلقه ويقال بل قتله وكان بجبال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها الحضر وبها ملك من الجرامقة يقال له الساطرون من ملوك الطوائف وهو الذي يقول فيه الشاعر:
وأرى الموت قد تدلى من الحضر ** على رب أهله الساطرون

ولقد كان آمنا للدواهي ** ذا ثراء وجوهر مكنون

وقال المسعودي: وهو الساطرون بن إستطرون من ملوك السريانيين قال الطبري: وتسميه العرب الضيزن وقال هشام بن محمد الكلبي: من قضاعة وهو الضيزن بن معاوية بن العميد بن الأجدم بن عمرو بن النخع بن سليم وسنذكر نسب سليم في قضاعة وكان بأرض الجزيرة وكان معه من قبائل قضاعة ما لا يحصى وكان ملكه قد بلغ الشام فحلف سابور في غزاته إلى خراسان وعاث في أرض السواد فشخص إليه سابور عند انقضاء غزاته حتى أناخ على حصنه وحاصره أربع سنين قال الأعشى:
ألم تر للحضر إذ أهله ** بنعمة وهل خالد من نعم

أقام به سابور الجنود ** حولين يضرب فيه القمم

ثم إن ابنه ساطرون واسمها النضيرة وخرجت إلى ربض المدينة وكانت من أجمل النساء وسابور كان جميلا فأشرفت عليه فشغفت به وشغف بها وداخلته في أمر الحصن ودلته على عورته فدخله عنوة وقتل الضيزن وأباد قضاعة الذين كانوا معه وأكثرهم بنو حلوان فانقرضوا وخرب حصن الحضر وقال عدي بن زيد في رثائه:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة ** تجبى إليه والخابور

شاده مرمرا وجلله كلسا ** فللطير في ذراه وكور

لم يهبه ريح المنون فبا ** د الملك عنه فبابه مهجور

ثم أعرس بالنضيرة بعين النمر وباتت ليلها تتضور في فراشها وكان من الحرير محشو بالقز والقسي فإذا ورقة آس بينها وبين الفراش وتؤذيها فقال: ويحك ما كان أبوك يغذيك؟ قالت الزبد والمخ والشهد وصفو الخمر فقال: وأبيك لأنا أحداث عهدا وأبعد ودا من أبيك الذي غذاك بمثل هذا وأمر رجلا ركب فرسا جموحا وعصب غدائرها بذنبه ولم يزل يركض حتى تقطعت أوصالها.
وعند ابن اسحق أن الذي فتح حصن الحضر وخربه وقتل الساطرون هو سابور ذو الأكتاف وقال السهيلي: لا يصح لأن الساطرون من ملوك الطوائف والذي أزال ملكهم هو أردشير وابنه سابور وسابور ذو الأكتاف بعدهم بكثير هو التاسع من ملوك أردشير قال السهيلي وأول من ملك الحيرة من ملوك الساسانية سابور بن أردشير والحيرة وسط بلاد السواد وحاضرة العرب ولم يكن لأحد قبله من آل ساسان حتى استقام العرب على طاعته وولى عليهم عمرو بن عدي جد آل المنذر بعده وأنزله الحيرة فجبى خراجهم وإتاوتهم واستعبدهم لسلطانه وقبض أيديهم عن الفساد بأقطار ملكه وما كانوا يرومونه بسواد العراق من نواحي مملكته وولى بعده ابنه امرأ القيس بن عمرو عدي وصار ذلك ملكا لآل المنذر بالحيرة توارثوه حسبما نذكر بعد.
وهلك سابور لثلاثين سنة من ملكه وولي بعده ابنه هرمز ويعرف بالبطل فملك سنة واحدة وولي بعده ابنه بهرام بن هرمز وكان عامله على مذحج من ربيعة ومضر وسائر بادية العراق والجزيرة والحجاز امرؤ القيس بن عمرو بن عدي وهو أول من تنصر من ملوك الحيرة وطال أمد ملكه قال هشام بن الكلبي: ملك مائة وأربع عشرة سنة من لدن أيام سابور اهـ.
وكان بهرام بن هرمز حليما وقورا وأحسن السيرة واقتدى بآبائه وكان ماني الثنوي الزنديق صاحب القول بالنور والظلمة قد ظهر في أيام جده سابور فاتبعه قليلا ثم رجع إلى المجوسية دين آبائه ولما ولي بهرام بن هرمز جمع الناس لامتحانه فأشادوا بكفره وقتله وقالوا زنديق قال المسعودي: ومعناه أن من عدل عن ظاهر إلى تأويله ينسبونه إلى تفسير كتاب زرادشت الذي قدمنا أن اسمه زندة فيقولون زنديهء فعربته العرب فقالوا زنديق ودخل فيه كل من خالف الظاهر إلى الباطن المنكر ثم اختص في عرف الشرع بمن يظهر الإسلام ويبطن الكفر.
ثم هلك بهرام بن هرمز لثلاث سنين وثلاثة أشهر من دولته وولي ابنه بهرام ثماني عشرة سنة عكف أولها على اللذات وامتدت أيدي بطانته إلى الرعايا بالجور والظلم فخربت الضياع والقرى حتى نبهه الموبذان لذلك بمثل ضربه له وذلك أنه سامره في ليلة فمر راجعا من الصيد فسمعا بومين يتحدثان في خراب فقال بهرام ليت شعري هل أحد فهم لغات الطير؟ فقال له الموبذان: نعم إنا نعرف ذلك أيها الملك وإنهما يتحاوران في عقد نكاح وعن الأنثى اشترطت عليه إقطاع عشرين ضيعة من الخراب فقبل الذكر وقال: إذا دامت أيام بهرام أقطعتك ألفا فتفطن بهرام لذلك وأفاق من غفلته وأشرف على أحوال ملكه مباشرا وقابضا أيدي البطانة عن الرعية وحسنت أيامه إلى أن هلك وولي بعده بهرام بن بهرام بن بهرام ثلاثة أسماء متشابهة وتلقب شاه وكان مملكا على سجستان وهلك لأربع سنين من دولته وملك بعده أخوه قرسين بن بهرام تسع سنين أخرى وكان عادلا حسن السيرة وملك بعده ابنه هرمز بن قرسين فوجل منه الناس لفظاظته ثم أبدل من خلقه الشر بالخير وسار فيهم بالعدل والرفق والعمارة وهلك لسبع سنين من ولايته وكان هؤلاء كلهم ينزلون جند يسابور من خراسان ولما هلك ولم يترك ولدا شق ذلك على أهل مملكته لميلهم إليه ووجدوا ببعض نسائه حملا فتوجوه وانتظروا إتمامه وقيل بل كان هرمز أبوه أوصى بالملك لذلك الحمل فقام أهل الدولة بتدبير الملك ينتظرون تمام الولد، وشاع في أطراف المملكة أنهم يتلومون صبيا في المهد فطمع فيهم الترك والروم وكانت بلاد العرب أدنى إلى بلادهم وهم أحوج إلى تناول الحبوب من البلاد لحاجتهم إليها بما هم فيه من الشظف وسوء العيش فسار منهم جمع من ناحية البحرين وبلاد القيس ووحاظة فأناخوا على بلاد فارس من ناحيتهم وغلبوا أهلها على الماشية والحرث والمعايش وأكثر الفساد ومكثوا في ذلك حينا ولم يغزهم أحد من فارس ولا دافعوهم لصغر الملك حتى إذا كبر وعرضوا عليه الأمور فأحسن فيها الفصل وبلغ ست عشرة سنة من عمره ثم أطاق حمل السلاح نهض حينئذ للاستبداد بملكه وكان أول شيء ابتدأ به شأن العرب فجهز إليهم العساكر وعهد إليهم أن لا يبقوا على أحد ممن لقوا منهم ثم شخص بنفسه إليهم وغزاهم وهم غازون ببلاد فارس فقتلهم وأبرح القتل وهربوا أمامه وأجاز البحر في طلبهم إلى الخط وتعدى إلى بلاد البحرين قتلا وتخريبا ثم غزا بعدها رؤوس العرب من تميم وبكر وعبد القيس فأثخن فيهم وأباد عبد القيس ولحق فلهم بالرمال ثم أتى اليمامة فقتل وأسر وخرب ثم عطف إلى بلاد بكر وتغلب ما بين مملكة فارس ومناظر الروم بالشام فقتل من وجد هنالك من العرب وطم مياههم وأسكن من رجع إليه من بني تغلب دارين من البحرين والخطو من بني تميم هجروا من بكر بن وائل كرمان ويدعون بكر إياد ومن بني حنظلة الأهواز وبنى مدينة الأنبار والكرخ والسوس.
وفيما قاله غيره إن إيادا كان تشتو بالجزيرة وتصيف بالعراق وتشن الغارة وكانت تسمى طما لانطباقها على البلاد وسابور يومئذ صغير حتى إذا بلغ القيام على ملكه شرع في غزوهم ورئيسهم يومئذ الحرث بن الأغر الأيادي وكتب إليهم بالنذر بذلك رجل من إياد كان بين ظهراني الفرس فلم يقبلوا حتى واقعتهم العساكر فاستلحمهم وخرجوا إلى أرض الجزيرة والموصل إجلاء ولم يعاودوا العراق ولما كان الفتح طلبهم المسلمون بالجزية مع تغلب وغيرهم فأنفوا ولحقوا بأرض الروم.
وقال السهيلي: عند ذكر سابور بن هرمز إنه كان يخلع أكتاف العرب ولذلك لقبه العرب ذو الأكتاف وأنه أخذ عمرو بن تميم بأرضهم بالبحرين وله يومئذ ثلثمائة سنة وإنه قال: إنما أقتلكم معاشر العرب لأنكم تزعمون أن لكم دولة فقال له عمرو بن تميم: ليس هذا من الحزم أيها الملك فإن يكن حقا فليس قتلك إياهم بدافعة وتكون قد اتخذت يدا عندهم ينتفع بها ولدك وأعقاب قومك فيقال إنه استبقاه ورحم كبره.
ثم غزا سابور بلاد الروم وتوغل فيها ونازل حصونهم كان ملوك الروم على عصره قسطنطين وهو أول من تنصر من ملوكهم وهلك قسطنطين وملك بعده إليانوس من أهل بيته وانحراف عن دين النصرانية وقتل الإساقفة وهدم البيع وجمع الروم وانحدار لقتال سابور واجتمعت العرب معهم لثأرهم عند سابور بمن قتل منهم وسار قائد إليانوس واسمه يوسانوس في مائة وسبعين ألفا من المقاتلة حتى دخل أرض فارس وبلغ خبره وكثرة جموعه إلى سابور فأحجم عن اللقاء وأجفل وصحبه العرب ففضوا جموعه وهرب في فل من عسكره واحتوى إليانوس على خزائنه وأمواله واستولى على مدينة طبسون من مدائن ملكه ثم استنفر أهل النواحي واجتمعت إليه فارس وارتجع مدينة طبسون وأقاما متظاهرين وهلك إليانوس بسهم أصابه فبقي الروم فوضى وفزعوا إلى يوسانوس القائد أن يملكوه فشرط عليهم الرجوع إلى دين النصرانية كما كان قسطنطين فقبلوا وبعث إليه سابور في القدوم عليه فسار إليه في ثمانين من أشراف الروم وتلقاه سابور وعانقه وبالغ في إكرامه وعقد معه الصلح على أن يعطي الروم قيمة ما أفسدوا من بلاده فارس وأعطوا بدلا عن ذلك نصيبين فرضي بها أهل فارس وكانت مما أخذه الروم من أيديهم فملكها سابور وشرد عنها أهلها خوفا من سطوته فنقل إليها من أهل اصطخر وأصبهان وغيرها وانصرف يوسانوس بالروم وهلك عن قرب ورجع سابور إلى بلاده.
وفيما نقله الإخباريين إن سابور دخل بلاد الروم متنكرا وعثر عليه فأخذ وحبس في جلد ثور وزحف ملك الروم بعساكره إلى جنديسابور فحاصرها وإن سابور هرب من حبسه ودخل جنديسابور المدينة ثم خرج إلى الروم فهزمهم وأسر ملكهم قيصر وأخذه بعمارة ما خرب من بلاده ونقل التراب والغروس إليها ثم قطع أنفه وبعث به على حمار إلى قومه وهي قصة واهية تشهد العادة بكذبها.
ثم هلك سابور لاثنتين وسبعين سنة من ملكه وهو الذي بنى مدينة نيسابور وسجستان وبنى الإيوان المشهور لمقعد ملوكهم وملك لعهده امرؤ القيس بن عدي وأوصى بالملك لأخيه أردشير بن هرمز وفتك في أشراف فارس وعظمائهم فخلعوه لأربعين سنة من دولته وملكوا سابور بن ذي الأكتاف فاستبشر الناس برجوع ملك أبيه إليه وأحسن السيرة ورفق بالرعية وحمل على ذلك العمال والوزراء والحاشية ولم يزل عادلا وخضع له عمه أردشير المخلوع وكانت له حروب مع إياد وفي ذلك يقول شاعرهم:
على رغم سابور بن سابور أصبحت ** قباب إياد حولها الخيل والنعم

وقيل إن هذا الشعر إنما قيل في سابور ذي الأكتاف ثم هلك سابور لخمس سنين من دولته وملك أخوه بهرام ويلقب كرمان شاه وكان حسن السياسة وهلك لإحدى عشرة سنة من دولته رماه بعض الرماة بسهم في القتال فقتله وملك بعده ابنه يزدجرد الأثيم وبعض نسابة الفرس يقول إنه أخوه ولي ابنه وإنما هو ابن ذي الأكتاف وقال هشام بن محمد: كان فظا غليظا كثير المكر والخديعة يفرغ في ذلك عقله وقوة معرفته وكان معجبا برأيه سيء الخلق كثير الحدة يستعظم الزلة الصغيرة ويرد الشفاعة من أهل بطانته متهما للناس قليل المكافأة وبالجملة فهو سيء الأحوال مذمومها واستوزر لأول ولايته برسي الحكيم ويسمى فهر برشي ومهر مرسة وكان متقدما في الحكمة والفضائل وأمل أهل المملكة أن تهرب من يزدجرد الأثيم فلم يكن ذلك واشتد أمره على الأشراف بالإهانة وعلى من دونهم بالقتل وبينما هو جالس في مجلسه يوما إذا بفرس عابر لم يطق أحد إمساكه قد وقف ببابه فقام إليه ليتولى إمساكه بنفسه فرمحه فمات لوقته لإحدى وعشرين سنة من ملكه.
وملك بعده ابنه بهرام بن يزدجرد ويلقب ببهرام جور وكان نشوؤه ببلاد الحيرة مع العرب أسلمه أبوه إليهم فربي بينهم وتكلم بلغتهم ولما مات أبوه قدم أهل فارس رجلا من نسل أردشير ثم زحف بهرام جور بالعرب فاستولى على ملكه كما نذكر في أخبار آل المنذر وفي أيام بهرام جور سار خاقان ملك الترك إلى بلاد الصغد من ممالكه فهزمه بهرام وقتله ثم غزا الهند وتزوج ابنه ملكهم فهابته ملوك الأرض وحمل إليه الروم الأموال على سبيل المهادنة وهلك لتسع وعشرين من دولته.
وملك ابنه يزدجرد بن بهرام جور واستوزر مهر برسي الحكيم الذي كان أبوه استوزره وجرى في ملكه بأحسن سيرة من العدل والإحسان وهو الذي شرع في بناء الحائط بناحية الباب والأبواب وجعل جبل الفتح سدا بين بلاده وما وراءها من أمم الأعاجم وهلك لعشرين سنة من دولته.
وملك من بعده ابنه هرمز وكان ملكا على سجستان فغلب على الدولة ولحق أخوه فيروز بملك الصغد بمرو الروذ وهذه الأمم المعروفون قديما بالهياطلة وكانوا بين خوارزم وفرغانة فأمر فيروز بالعساكر وقاتل أخاه هرمز فغلبه وحبسه وكانت الروم قد امتنعت من حمل الخراج فحمل إليهم العساكر مع وزيره مهر برسي فأثخن في بلادهم حتى حملوا ما كان يحملونه واستقام أمره وأظهر العدل وأصابهم القحط في دولته سبع سنين فأحسن تدبير الناس فيها وكف عن الجباية وقسم الأموال ولم يهلك في تلك السنين أحد إتلافا وقيل أنه استسقى لرعيته من ذلك القحط فسقوا وعادت البلاد إلى أحسن ما كانت عليه وكان لأول ما ملك أحسن إلى الهياطلة جزاء بما أعانوه على أمره فقوي ملكهم أمره وزحفوا إلى أطراف ملكه وملكوا طخارستان وكثيرا من بلاد خراسان وزحف هو إلى قتالهم فهزموه وقتلوه وأربعة بنين له وأربعة إخوة واستولوا على خراسان بأسرها وسار إليهم رجل من عظماء الفرس من أهل شيراز فغلبهم على خراسان وأخرجهم منها حتى ألقوا بجميع ما أخذوه من عسكر فيروز من الأسرى والسبي وكان مهالكه لسبع وعشرين من ملكه وبنى المدن بالري وجرجان وأذربيجان.
وقال بعضهم: إن ملك الهياطلة الذي سار إلى فيروز اسمه خشتوا والرجل الذي استرجع خراسان من يده هو خرسوس من نسل منوشهر وإن فيروز استخلفه لما سار إلى خشتوا والهياطلة على مدينتي الملك وهما طبسون ونهرشير فكان من أمره مع الهياطلة بعد فيروز ما تقدم.
وملك بعد فيروز بن يزدجرد ابنه يلاوش بن فيروز ونازعه أخوه قباذ الملك فغلبه يلاوش ولحق قباذ بخاقان ملك الترك يستنجده وأحسن يلاوش الولاية والعدل وحمل أهل المدن على عمارة ما خرب من مدنهم وبنى مدينة ساباط بقرب المدائن وهلك لأربع سنين من دولته وملك من بعده أخوه قباذ بن فيروز وكان قد سار بعساكر الترك أمده بها خاقان فبلغه الخبر بمهلك أخيه وهو بنيسابور من طريقه وقد لقي بها إبنا كان له هنالك حملت به أمه منه عند مروره ذلك إلى خاقان فلما أحل بنيسابور ومعه العساكر سأل عن المرأة فأحضرت ومعها الخبر وجاء الخبر هنالك بمهلك أخيه يلاوش بالمولود وسار إلى سرحد الذي كان أبوه فيروز استخلفه على المدائن ومال الناس إليه دون قباذ واستبد عليه فلما كبر وبلغ سن الاستبداد بأمره أنف من استبداد سرحد عليه فبعث إلى أصبهبذ البلاد وهو سابور مهران فقدم عليه وقبض على سرحد وحبسه ثم قتله ولعشرين من دولته حبس وخلع ثم عاد إلى الملك وصورة الخبر عن ذلك أن مردك الزنديق كان إباحيا وكان يقول باستباحة أموال الناس وأنها فيء وأنه ليس لأحد دون أحد وهو لمن اختاره فعثر الناس منه على متابعة مزدك في هذا الاعتقاد واجتمع أهل الدولة فخلعوه وحبسوه وملكوا جاماسات أخاه.
وخرج رزمهر شاكيا داعيا لقباذ ويقرب إلى الناس بقتل المزدكية وأعاد قباذ إلى ملكه ثم سعت المزدكية عنده في رزمهر بإنكار ما أتى قبلهم فقبله واتهمه الناس برأي مزدك فانتقضت الأطراف وفسد الملك وخلعوه وحبسوه وأعادوا جاماسات وفر قباذ من محبسه ولحق قباذ بالهياطلة وهم الصغد مستجيشا لهم ومر في طريقه بأبو شهر فتزوج بنت ملكها وولدت له أنوشروان ثم أمده ملك الهياطلة فزحف إلى المدائن لست من مغيبه وغلب أخاه جاماسات واستولى على الملك ثم غزا بلاد الروم وفتح آمد وسبى أهلها وطالت مدته وابتنى المدن العظيمة منها مدينة أرجان بين الأهواز وفارس ثم هلك لثلاث وأربعين سنة من ملكه في الكرة الأولى.
وملك ابنه أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد وكان يلي الأصبهبذ وهي الرياسة على الجنود ولما ملك فرق أصبهبذ البلاد على أربعة فجعل: أصبهبذ المشرق بخراسان والمغرب بأذربيجان وبلاد الخزر واسترد البلاد التي تغلب عليها جيران الأطراف من الملوك مثل السند وبست الرخج وزبلستان وطخارستان ودهستان وأثخن في أمة البازر وأجلى بقيتهم ثم أدهنوا واستعانوا بهم في حروبه وأثخن في أمة صول واستلحمهم وكذلك الجرامقة وبلنجر واللان وكانوا يجاورون أرمينية ويتملأون على غزوها فبعث إليهم العساكر واستلحموهم وأنزل بقيتهم أذربيجان وأحكم بناء الحصون التي كان بناها قباذ وفيروز بناحية صول واللان لتحصين البلاد وأكمل بناء الأبواب والسور الذي بناه جده بجبل الفتح بنوه على الأزماق المنفوخة تغوص في الماء كلما ارتفع البناء إلى أن استقرت بقعر البحر وشقت بالخناجر فتمكن الحائط من الأرض ثم وصل السور في البر ما بين جبل الفتح والبحر وفتحت فيه الأبواب ثم وصلوه في شعاب الجبل وبقي فيه إلى أن كمل قال المسعودي: إنه كان باقيا لعصره والظن أن التتر خربوه بعد لما استولوا على ممالك الإسلام في المائة السابعة ومكانه اليوم بني ذو شيخان ملوك الشمال منهم وكان لكسرى أنوشروان في بنائه خبر ملوك الخزر.
ثم استفحل ملك الترك زحف خاقان سيحور وقتل ملك الهياطلة واستولى على بلادهم وأطاعه أهل بلنجر وزحف إلى بلاد صول في عشرة آلاف مقاتل وبعث إلى أنوشروان يطلب منه ما أعطاه أهل بلنجر في الفداء وضبط أنوشروان أرمينية بالعساكر وامتنعت صول بملكها أنوشروان والناحية الأخرى بسور الأبواب فرجع خاقان خائبا.
وأخذ أنوشروان في إصلاح السابلة والأخذ بالعدل وتفقد أهل المملكة وتخير الولاة والعمال مقتديا بسيرة أردشير بن بابك جده ثم سار إلى بلاد الروم وافتتح حلب وقبرص وحمص وأنطاكية ومدينة هرقل ثم الإسكندرية وضرب الجزية على ملوك القبط وحمل إليه ملك الروم الفدية وملك الصين والتبت الهدايا ثم غزا بلاد الخزر وأدرك فيهم بثأره وما فعلوه ببلاده ثم وفد عليه ابن ذي يزن من نسل الملوك التبابعة يستجيشه على الحبشة فبعث معه قائدا من قواده في جند من الديلم فقتلوا مسروقا ملك الحبشة باليمن وملكوها وملك عليهم سيف بن ذي يزن وأمره أن يبعث عساكره إلى الهند فبعث إلى سرنديب قائدا من قواده فقتل ملكها واستولى عليها وحمل إلى كسرى أموالا جمة وملك على العرب في مدينة الحيرة ثم سار نحو الهياطلة مطالبا بثأر جده فيروز فقتل ملكهم واستأصل أهل بيته وتجاوز بلخ وما وراءها وأنزل عساكره فرغانة وأثخن في بلاد الروم وضرب عليهم الجزى وكان مكرما للعلماء محبا للعلم وفي أيامه ترجم كتاب كليلة وترجمه من لسان اليهود وحله بضرب الأمثال ويحتاج إلى فهم دقيق وعلى عهده ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم لإثنتين وأربعين سنة من ملكه وذلك عام الفيل وكذلك ولد أبوه عبد الله بن عبد المطلب لأربع وعشرين من ملكه.